الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)
.باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا}: قوله: باب قول الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا} جعل المؤلف رحمه الله تعالى الأية هي الترجمة، ويمكن أن يُعنى بهذه الترجمة باب المحبة.وأصل الأعمال كلها هو المحبة، فالإنسان لا يعمل إلا لما يحب، إما لجلب منفعه، أو لدفع مضرة، فإذا عمل شيئًا، فلأنه يحبه إما لذاته كالطعام: أو لغيره كالدواء.وعبادة الله مبنية على المحبة، بل هي حقيقة العبادة، إذ لو تعبدت بدون محبة صارت عبادتك قشرًا لا روح فيها، فإذا كان الإنسان في قلبه محبة لله وللوصول إلى جنته، فسوف يسلك الطريق الموصل إلى ذلك.ولهذا لما أحب المشركون آلهتهم توصلت بهم هذه المحبة إلى أن عبدوها من دون الله أو مع الله.* والمحبة تنقسم إلى قسمين:القسم الأول: محبة عبادة، وهي التي توجب التذلل والتعظيم، وأن يقوم بقلب الإنسان من إجلال المحبوب وتعظيمه ما يقتضي أن يمتثل أمره ويجتنب نهيه، وهذه خاصة بالله، فمن أحب مع الله غيره محبة عبادة، فهو مشرك شركًا أكبر، ويعبر العلماء عنها بالمحبة الخاصة.القسم الثاني: محبة ليست بعبادة في ذاتها، وهذه أنواع:النوع الأول: المحبة لله وفي الله، وذلك بأن يكون الجالب لها محبة الله، أى: كون الشيء محبوبًا لله تعالى من أشخاص، كالأنبياء، والرسل، والصديقين، والشهداء، والصالحين.أو أعمال، كالصلاة، والزكاة، وأعمال الخير، أو غير ذلك.وهذا النوع تابع للقسم الأول الذي هو محبة الله.النوع الثاني: محبة إشفاق ورحمة، وذلك كمحبة الولد. والصغار، والضعفاء، والمرضى.النوع الثالث: محبة إجلال وتعظيم لا عبادة، كمحبة الإنسان لوالده، ولمعلمه، ولكبير من أهل الخير.النوع الرابع: محبة طبيعية، كمحبة الطعام، والشراب، والملبس، والمركب، والمسكن.وأشرف هذه الأنواع النوع الأول، والبقية من قسم المباح، إلا إذا أقترن بها ما يقتضى التعبد صارت عبادة، فالإنسان يحب والده محبة إجلال وتعظيم، وإذا اقترن بها أن يتعبد لله بهذا الحب من أجل أن يقوم ببر والده صارت عبادة وكذلك يحب ولده محبة شفقة، وإذا اقترن بها ما يقتضي أن يقوم بأمر الله بإصلاح هذا الولد صارت عبادة.وكذلك المحبة الطبيعية، كالأكل والشرب والملبس والمسكن إذا قصد بها الاستعانة على عبادة صارت عبادة، ولهذا (حبب للنبي النساء والطيب) من هذه الدنيا، فحبب إليه النساء، لأن ذلك مقتضى الطبيعة ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة، وحبب إليه الطيب، لأنه ينشط النفس ويريحها ويشرح الصدر، ولأن الطيبات للطيبين، والله طيب لا يقبل إلا طيبًا.…فهذه الأشياء إذا اتخذها الأنسان بقصد العبادة صارت عبادة، قال النبي: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى».وقال العلماء: إن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، قالوا: الوسائل لها أحكام المقاصد، وهذا أمر متفق عليه.وقد ذكر المؤلف رحمه الله فى هذا الباب آيتين:* الأولى التي ترجم بها وهي قوله: {ومن الناس}.{من} تبعيضية، هي ومجرورها خبر مقدم، و: {من يتخذ} مبتدأ مؤخر.قوله: {أندادًا}. جمع ند، وهو الشبية والنظير.قوله: {يحبونهم كحب الله}. أي: في كيفيته ونوعه، فالنوع أن يحب غير الله محبة عبادة.والكيفية: أن يحبه كمحبة الله أو أشد، حتى إن بعضهم يعظم محبوبه ويغار له أكثر مما يعظم الله ويغار له، فلو قيل: أحلف بالله، لحلف، وهو كاذب ولم يبال، ولو قيل: احلف بالند، لم يحلف، وهو كاذب، وهذا شرك أكبر.وقوله: {كحب الله}. للمفسرين فيها قولان:الأولى: أنها على ظاهرها، وأنها مضافة إلى مفعولها، أي: يحبونهم كحبهم لله، والمعنى يحبون هذه الأنداد كمحبة الله، فيجعلونها شركاء لله في المحبة، لكن الذين آمنوا أشد حبًّا لله من هؤلاء لله، وهذا هو الصواب.الثاني: أن المعنى كحب الله الصادر من المؤمنين.أي: كحب المؤمنين لله، فيحبون هذه الأنداد كما يحب المؤمنون الله- عز وجل-، وهذا وإن احتمله اللفظ، لكن السياق يأباه، لأنه لو كان المعنى ذلك، لكان مناقضًا لقوله تعالى فيما بعد: {والذين آمنوا أشد حبًّا لله}.وكانت محبة المؤمنين لله أشد، لأنها محبة خالصة ليس فيها شرك، فمحبة المؤمنين أشد من حب هؤلاء لله.فإن قيل: قد ينقدح في ذهن الإنسان أن المؤمنين يحبون هذه الأنداد نظرًا لقوله: {أشد حبًّا لله}، فما الجواب؟أجيب: أن اللغة العربية يجري فيها التفضيل بين شيئين وأحدهما خال منه تمامًا، ومنه قوله تعالى: {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرًا وأحسن مقيلًا} [الفرقان: 24]، مع أن مستقر أهل النار ليس فيه خير، وقال تعالى: {الله خير أما يشركون} [النمل: 59]، والطرف الأخر ليس فيه شىء من هذه الموازنة، ولكنها من باب مخاطبة الخصم بحسب اعتقاده.* مناسبة الآية لباب المحبة:مُنع الإنسان أن يحب أحدًا كمحبة الله، لأن هذا من الشرك الأكبر المخرج عن الملة، وهذا يوجد في بعض العباد وبعض الخدم، فبعض العباد يعظمون ويحبون بعض القبور أو الأولياء كمحبة الله أو أشد، وكذلك بعض الخدم تجدهم يحبون هؤلاء الرؤساء أكثر مما يحبون الله ويعظمونهم أكثر مما يعظمون الله، قال تعالى: {وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ربنا أتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبيرًا} [الأحزاب: 67، 68].وقوله: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره} [التوبة: 24].* الآية الثانية قوله تعالى: {قل إن كان إباؤكم وأبناؤكم}.{آباؤكم}. اسم كان، وباقي الآية مرفوع معطوف عليه، وخبر كان: {أحب إليكم من الله ورسوله}، والخطاب في قوله: {قل} للرسول والمخاطب في قوله: {آباؤكم} الأمة.والأمر في قوله: {فتربصوا} يراد به التهديد، أي: انتظروا عقاب الله، ولهذا قال: {حتى يأتى الله بأمره} بإهلاك هؤلاء المؤثرين لمحبة هؤلاء الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله وجهاد في سبيله.فدلت الآية على أن محبة هؤلاء وإن كانت من غير محبة العبادة إذا فضلت على محبة الله صارت سببًا للعقوبة.ومن هنا نعرف أن الإنسان إذا كان يهمل أوامر الله لأوامر والده، فهو يحب أباه أكثر من ربه.وما في القلوب وإن كان لا يعلمه إلا الله، لكن له شاهد في الجوارح، ولذا يروى عن الحسن ولذا يروى عن الحسب رحمه الله أنه قال: «ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه»، فالجوارح مرآة القلب.فإن قيل: المحبة في القلب ولا يستطيع الإنسان أن يملكها، ولهذا يروى عن النبي، أنه قال: «اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك»، وكيف للإنسان أن يحب شيئًا وهو يبغضه، وهل هذا إلا من محاولات جعل الممتنع ممكنًا؟أجيب: أن هذا إيراد ليس بوارد، فالإنسان قد تنقلب محبته لشيء كراهة وبالعكس، إما لسبب ظاهر أو لإرادة صادقة، فمثلًا: لك صديق تحبه فيسرق منك وينتهك حرمتك، فتكرهه لهذا السبب، أو لإرادة صادقة، كرجل يحب شرب الدخان، فصار عنده إرادة صادقة وعزيمة ثابتة، فكره الدخان، فأقلع عنه.وقال عمر رضى الله عنه للنبي: «إنك لأحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. قال النبي: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال: الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي. فقال النبي الآن يا عمر».فقد ازدادت محبة عمر رضي الله عنه للنبي وأقره النبي على أن الحب قد يتغير.وربما تسمع عن شخص كلامًا وأنت تحبه فتكرهه، ثم يتبين لك أن هذا الكلام كذب، فتعود محبتك إياه.عن أنس، أن رسول الله قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين». أخرجاه.قوله في حديث أنس: «لا يؤمن». هذا نفي للإيمان، ونفي الإيمان تارة يراد به نفي الكمال الواجب، وتارة يراد به نفي الوجود، أي: نفي الأصل.والمنفي في هذا الحديث هو كمال الإيمان الواجب، إلا إذا خلا القلب من محبة الرسول إطلاقًا، فلا شك أن هذا نفي لأصل الإيمان.قوله: «من ولده». يشمل الذكر والأنثى، وبدأ بمحبة الولد، لأن تعلق القلب به أشد من تعلقه بأبيه غالبًا.قوله: «ووالده» يشمل أباه، وجده وإن علا، وأمه، وجدته وإن علت.قوله: «والناس أجمعين». يشمل أخوته وأعمامة وأبناءهم وأصحابه ونفسه، لأنه من الناس، فلا يتم الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليه من جميع المخلوقين.وإذا كان هذا في محبة رسول الله، فكيف بمحبة الله تعالى؟!ومحبة رسول الله تكون لأمور:الأول: أنه رسول الله، وإذا كان الله أحب إليك من كل شىء، فرسوله أحب إليك من كل مخلوق.الثاني: لِمَا قام به من عبادة الله وتبليغ رسالته.الثالث: لما آتاه الله من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال.الرابع: أنه سبب هدايتك وتعليمك وتوجيهك.الخامس: لصبره على الأذى في تبليغ الرسالة.السادس: لبذل جهده بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله.* ويستفاد من هذا الحديث ما يلى:1- وجوب تقديم محبة الرسول على محبة النفس.2- فداء الرسول بالنفس والمال، لأنه يجب أن تقدم محبته على نفسك ومالك.3- أنه يجب على الإنسان أن ينصر سنة رسول الله ويبذل لذلك نفسه وماله وكل طاقته، لأن ذلك من كمال محبة رسول الله، ولذلك قال بعض أهل العلم في قوله: {إن شانئك هو الأبتر} [الكوثر: 3]، أي: مبغضك، قالوا: وكذلك من أبغض شريعته، فهو مقطوع لا خير فيه.4- جواز المحبة التي للشفقة والإكرام والتعظيم، لقوله: «أحب إليه من ولده ووالده...»، فأثبت أصل المحبة، وهذا أمر طبيعي لا ينكره أحد.5- وجوب تقديم قول الرسول على قول كل الناس، لأن من لازم كونه أحب من كل أن يكون قوله مقدمًا على كل أحد من الناس، حتى على نفسك، فمثلًا: أنت تقول شيئًا وتهواه وتفعله، فيأتي إليك رجل ويقول لك: هذا يخالف قول الرسول، فإذا كان الرسول أحب إليك من نفسك، فأنت تنتصر للرسول أكثر مما تنتصر لنفسك، وترد على نفسك بقول الرسول، فتدع ما نهواه من أجل طاعة الرسول، وهذا عنوان تقديم محبته على محبة النفس، ولهذا قال بعضهم:إذا يؤخذ من هذا الحديث وجوب تقديم قول الرسول على قول كل الناس حتى على قول أبى بكر وعمر وعثمان، وعلى قول الأئمة الأربعة ومن بعدهم، قال الله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم} [الأحزاب: 36].لكن إذا وجدنا حديثًا يخالف الأحاديث الأخرى الصحيحة أو مخالفًا لقول أهل العلم وجمهور الأمة، فالواجب التثبت والتأني في الأمر، لأن اتباع الشذوذ يؤدي إلى الشذوذ.ولهذا إذا رأيت حديثًا يخالف ما عليه أكثر الأمة أو يخالف الأحاديث الصحيحة التي كالجبال في رُسوِّها، فلا تتعجل في قبوله، بل يجب عليك أن تراجع وتطالع في سنده حتى يتبين لك الأمر، فإذا تبين، فإنه لا بأس أن يُخَصَّص الأقوى بأضعف منه إذا كان حجة، فالمهم التثبت في الأمر، وهذه القاعدة تنفعك في كثير من الأقوال التى ظهرت أخيرًا، وتركها الأقدمون وصارت محل نقاش بين الناس، فإنه يجب اتباع هذه القاعدة، ويقال: أين الناس من هذه الأحاديث؟ ولو كانت هذه الأحاديث من شريعة الله، لكانت منقولة باقية معلومة مثل ما ذكر أن الإنسان إذا لم يطف طواف الإفاضة قبل أن تغرب الشمس يوم العيد، فإنه يعود محرمًا، فإن هذا الحديث وإن كان ظاهر سنده الصحة، لكنه ضعيف وشاذ، ولهذا لم يُذكر أنه عمل به إلا رجل أو رجلان من التابعين، وإلا، فالأمة على خلافه، فمثل هذه الأحاديث يجب أن يتحرى الإنسان فيها ويتثبت، ولا نقول: إنها لا يمكن أن تكون صحيحة.* مناسبة هذا الحديث للباب:مناسبة هذا الحديث ظاهرة، إذ محبة الرسول من محبة الله، ولأنه إذا كان لا يكمل الإيمان حتى يكون الرسول أحب إلى الإنسان من نفسه والناس أجمعين، فمحبة الله أولى وأعظم.ولهما عنه، قال: قال رسول: «ثلاث من كن فيه، وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار» وفى رواية: «لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى.....». إلى آخره.قوله في حديث أنس الثاني: «ثلاث من كن فيه» أي: ثلاث خصال، و: (كن) بمعنى وجدن فيه.وإعراب (ثلاث): مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأنها بها لأنها مفيدة على حد قول ابن مالك: ولا يجوز الابتداء بالنكرة ما لم تفد.وقوله: (من كن فيه). (من): شرطية، و: (لكن): أصلها كان، فتكون فعلًا ماضيًا ناسخًا، والنون اسمها، و: (فيه): خبرها.قوله: (وجد بهن). وجد: فعل ماض في محل جزم جواب الشرط، والجملة من فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ.وقوله: «وجد بهن حلاوة الإيمان». الباء للسببية، وحلاوة مفعول وجد، وحلاوة الإيمان: ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من الطمأنينة والراحة والانشراح، وليست مدركة باللعاب والفم، فالمقصود بالحلاوة هنا الحلاوة القلبية.الخصلة الأولى من الخصال الواردة في الحديث:قوله: «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما». الرسول محمد وكذا جميع الرسل تجب محبتهم.قوله: «أحب إليه مما سواهما». أي: أحب إليه من الدنيا كلها ونفسه وولده ووالده وزوجه وكل شيء سواهما، فإن قبل: لماذا جاء الحديث بالواو: «الله ورسوله» وجاء الخبر لهما جميعًا: «أحب إليه مما سواهما»؟فالجواب: لأن محبة الرسول من محبة الله، ولهذا جعل قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ركنًا واحدًا، لأن الإخلاص لا يتم إلا بالمتابعة التي جاءت عن طريق النبي.الخصلة الثانية:قوله: «وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله».قوله: «وأن يحب المرء» يشمل الرجل والمرأة.قوله: «لا يحبه إلا لله»: اللام للتعليل، أى: من أجل الله، لأنه قائم بطاعة الله- عز وجل-.وحب الإنسان للمرء له أسباب كثيرة: يحبه للدنيا، ويحبه للقرابة، ويحبه للزمالة، ويحب المرء زوجته للاستمتاع، ويحب من أحسن إليه، لكن إذا أحببت هذا المرء لله، فإن ذلك من أسباب وجود حلاوة الإيمان.الخصلة الثالثة:قوله: «وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار».هذه الصورة في كافر أسلم، فهو يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار، وأنما ذكر هذه الصورة، لأن الكافر يألف ما كان عليه أولًا، فربما يرجع إليه بخلاف من لا يعرف الكفر أصلًا.فمن كره العود في الكفر كما يكره القذف في النار، فإن هذا من أسباب وجود حلاوة الإيمان.قوله: وفي رواية: «لا يجد حلاوة الإيمان».أتى المؤلف بهذه الرواية، لأن انتفاء وجدان حلاوة الإيمان بالنسبة للرواية الأولى عن طريق المفهوم، وهذه عن طريق المنطوق، ودلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم.وعن ابن عباس قال: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى فى الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان- وإن كثرت صلاته وصومه- حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يُجدي على أهله شيئًا. رواه ابن جرير.قوله في أثر ابن عباس رضي الله عنهما: (من أحب في الله). (من) شرطية، وفعل الشرط أحب، وجوابه جملة: (فإنما تنال ولاية الله بذلك).و: (في): يحتمل أن تكون للظرفية، لأن الأصل فيها الظرفية، ويحتمل أن تكون للسببية، لأن (في) تأتي أحيانًا للسببية، كما في قوله: «دخلت امرأة النار في هرة» أي: بسبب هرة.وقوله: (في الله) أي: من أجله، إذا قلنا: إن في للسببية، وأما إذا قلنا: إنها للظرفية، فالمعنى: من أحب في ذات الله، أي: في دينه وشرعه لا لعرض الدنيا.قوله: (وأبغض في الله). البغض الكره، أي: أبغض في ذات الله إذا رأى من يعصى الله كرهه.وفرق بين (في) التى للسببية و: (في) التي للظرفية، فالسببية الحامل له على المحبة أو البغضاء هو الله، والظرفية موضع الحب أو الكراهية هو في ذات الله- عز وجل-، فيبغض من أبغضه الله، ويحب من أحبه.قوله: (ووالى في الله). الموالاة هي المحبة والنصرة وما أشبه ذلك.قوله: (وعادي في الله). المعاداة ضد الموالاة، أي: يبتعد عنهم ويبغضهم ويكرههم في الله.قوله: فإنما تنال ولاية الله بذلك. هذا جواب الشرط، أي: يدرك الإنسان ولاية الله ويصل إليها، لأنه جعل محبته وبغضه وولايته ومعاداته لله.وقوله: (ولاية). يجوز في الواو وجهان: الفتح والكسر، قيل: معناهما واحد، وقيل: بالفتح بمعنى النصرة، قال تعالى: {ما لكم من ولايتهم من شيء}، وبالكسر بمعنى الولاية على الشيء.قوله: (بذلك). الباء للسببية، والمشار إليه الحب في الله والبغض فيه، والموالاة فيه والمعاداة فيه.وهذا الأثر موقوف، لكنه بمعنى المرفوع، لأن ترتيب الجزاء على العمل لا يكون إلا بتوقيف، إلا الإثر ضعيف.فمعنى الحديث: أن الإنسان لا يجد طعم الإيمان وحلاوته ولذته حتى يكون كذلك، ولو كثرت صلاته وصومه، وكيف يستطيع عاقل فضلًا عن مؤمن أن يوالي أعداء الله، فيرى أعداء الله يشركون به ويكفرون به ويصفونه بالنقائص والعيوب، ثم يواليهم ويحبهم؟! فهذا لو صلى وقام الليل كله وصام الدهر كله، فإنه لا يمكن أن ينال طعم الإيمان، فلابد أن يكون قلبك مملوءً بمحبة الله وموالاته، ويكون مملوءًا ببغض أعداء الله ومعاداتهم، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقال الإمام أحمد رحمه الله: (إذا رأيت النصراني أغمض عيني، كراهة أن أرى بعينى عدو الله).هذا الذي يجد طعم الإيمان، أما- والعياذ بالله- الذى يرى أن اليهود أو النصارى على دين مرضي ومقبول عند الله بعد بعثة النبي، فهو خارج عن الإسلام، مكذب بقول الله: {ورضيت لكم الإسلام دينًا} [المائدة: 3].وقوله: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] وقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران:85] ولكثرة اليهود والنصارى والوثنين صار في هذه المسألة خطر على المجتمع، وأصبح كثير من الناس الآن لا يفرق بين المسلم وكافر، ولا يدري أن غير المسلم عدو لله- عز وجل-، بل هو عدو له أيضًا، لقوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا لا يتخذوا عدوي وعدكم أوليا} [الممتحنة: 1]، فهم أعداء لنا ولو تظاهروا بالصداقة، قال الله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [المائدة: 51].فالآن أصبحنا في محنة وخطر عظيم، لأنه يخشى على أبنائنا وأبناء قومنا أن يركنوا إلى هؤلاء ويوادوهم يحبوهم، ولذلك يجب أن تخلص هذه البلاد بالذات منهم، فهذه البلاد قال فيها الرسول: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا»، وقال: «أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب» وقال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»، وهذا كله من أجل أن لا يشتبه الأمر على الناس ويختلط أولياء الله بأعدائه.قوله: (وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا).قوله: (عامة). أي: أغلبية.(مؤاخاة الناس): أي مودتهم ومصاحبتهم، أي: أكثر مودة الناس ومصاحبتهم على أمر الدنيا، وهذا قاله ابن عباس، وهو بعيد العهد منا قريب العهد من النبوة، فإذا كان الناس قد تغيروا في زمنه، فما بالك بالناس اليوم؟فقد صارت مؤاخاة الناس- إلا النادر- على أمر الدنيا، بل صار أعظم من ذلك، يبيعون دينهم بدنياهم، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} [الأنفال: 27]، ولما كان غالب ما يحمل على الخيانة هو المال وحب الدنيا أعقبها بقوله: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم} [الأنفال: 28].ويستفاد من أثر ابن عباس رضي الله عنهما:أن الله تعالى أولياء، وهو ثابت بنص القرآن، قال تعالى: {الله ولى الذين آمنوا} [البقرة: 257]، وقال تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} [المائدة: 55]، فلله أولياء يتولون أمره ويقيمون دينه، وهو يتولاهم بالمعونة والتسديد والحفظ والتوفيق، والميزان لهذه الولاية قوله تعالى: {إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 62].قال شيخ الإسلام: (من كان مؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا). والولاية سبق أنها النصرة والتأييد والإعانة.والولاية تنقسم إلى: ولاية من الله للعبد، وولاية من العبد لله، فمن الأولى قوله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا} [البقرة: 257] ومن الثانية قوله تعالى: {ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا} [المائدة: 56].والولاية التي من الله للعبد تنقسم إلى عامة وخاصة، فالولاية العامة هي الولاية على العباد بالتدبير والتصريف، وهذه تشمل المؤمن والكافر وجميع الخلق، فالله هو الذي يتولى عباده بالتدبير والتصريف والسلطان وغير ذلك، ومنه قوله تعالى. {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق آلا له الحكم وهو أسرع الحاسبين} [الأنعام: 62].والولاية الخاصة: أن يتولى الله العبد بعناية وتوفيقه وهدايته، وهذه خاصة بالمؤمنين، قال تعالى: {الله ولي الذين أمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجهم من النور إلى الظلمات} [البقرة: 257] وقال: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون} [يونس: 62].وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وتقطعت بهم الأسباب} [البقرة: 166]، قال: (المودة).قوله: وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {وتقطعت بهم الأسباب}، قال: المودة. يشير إلى قوله تعالى: {إذ تبرأ الذين أتبعوا من الذين أتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب}.الأسباب: جمع سبب، وهو كل ما يتوصل به إلى شيء.وفى اصطلاح الأصوليين: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم، فكل ما يوصل إلى شىء، فهو سبب، قال تعالى: {من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع} [الحج: 15]، ومنه سمي الحبل سببًا، لأن الإنسان يتوصل به إلى استخراج الماء من البئر.وقوله: (قال: المودة). هذا الأثر ضعفه بعضهم، لكن معناه صحيح، فإن جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون لتنجيهم تنقطع بهم، ومنها محبتهم لآصنامهم وتعظيمهم إياها، فإنها لا تنفعهم، ولعل ابن عباس رضي الله عنهما أخذ ذلك من سياق الآيات، فقد قال الله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون أخذ أندادًا يحبونهم كحب الله} [البقرة: 165]، ثم قال: {إذ تبرأ الذين أتبعوا من الذين أتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب} [البقرة: 166].وبه تعرف أن مراده المودة الشركية، فأما المودة الإيمانية كمودة الله تعالى ومودة ما يحبة من الإعمال والإشخاص، فإنها نافعة موصلة للمراد، قال الله تعالى: {الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} [الزخرف: 67].فيه مسائل:الأولى: تفسير أية البقرة: الثانية: تفسير آية براءة. الثالثة: وجوب محبته على النفس والأهل والمال. الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها. السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها. السابعة: فهم الصحابى للواقع، أن عامة المؤاخاة على مر الدنيا. الثامنة: تفسير: {وتقطعت بهم الأسباب}. التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبًّا شديدًا. العاشرة الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه. الحادية عشرة: أن من اتخذ ندًّا تساوى محبته الله، فهو الشرك الأكبر.فيه مسائل:الأولى: تفسير آية البقرة. وهي قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله}. وسبق ذلك.الثانية: تفسير آية براءة. وهي قوله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم} الأية: وسبق تفسيرها.الثالثة: وجوب محبته على النفس والأهل والمال. وفي نسخة: (وتقديمها على النفس والأهل والمال).ولعل الصواب: وجوب تقديم محبته كما هو مقتضى الحديث، وأيضًا قوله: (على النفس) يدل على أنها قد سقطت كلمة تقديم أو وتقديمها، وتؤخذ من حديث أنس السابق ومن قوله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم أحب إليكم من الله ورسوله}، فذكر الأقارب والأموال.الرابعة: أن تفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام. سبق أن المحبة كسبية، وذكرنا في ذلك حديث عمر رضي الله عنه لما قال للرسول:«والله إنك لأحب إلى من كل شىء إلا من نفسي. فقال له ومن نفسك. فقال: الآن، أنت أحب إلى من نفسي» قوله: (الآن) يدل على حدوث هذه المحبة، وهذا أمر ظاهر، وفيه أيضاَ أن نفي الإيمان المذكور في قوله: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده...» لا يدل على الخروج من الإسلام، لقوله في الحديث الآخر: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان»، لان حلاوة الإيمان أمر زائد على أصله، أي إن الدليل مركب من الدليلين.ونفي الشيء له ثلاث حالات: فالأصل أنه نفي للوجود، وذلك مثل: (إيمان لعابد صنم) فإن منع مانع من نفي الوجود، فهو نفي للصحة، مثل: «لا صلاة بغير وضوء»، فإن منع مانع من نفي الصحة، فهو نفي للكمال، مثل: «لا صلاة بحضرة طعام»، فقوله: «لا يؤمن أحدكم» نفي للكمال الواجب لا المستحب، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمة الله: (لا ينفى الشيء إلا لانتفاء واجب فيه ما لم يمنع من ذلك مانع).الخامسة: إن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها. تؤخذ من قوله: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان»، وهذا دليل انتفاء الحلاوة إذا أنتفت هذه الإشياء.السادسة: أعمال القلب الأربعة التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الأيمان إلا بها. وهي: الحب في الله، والبغض في الله، والولاء في الله، والعداء في الله.لا تنال ولاية الله إلا بها، فلو صلى الأنسان وصام ووالى أعداء الله، فإنه لاينال ولاية الله، قال ابن القيم: وهذا لا يقبله حتى الصبيان أن توالي من عاداهم.وقوله: (ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها) مأخوذة من قول ابن عباس: (ولن يجد عبد طعم الإيمان...) الخ.السابعة: فهم الصحابى للواقع أن عامة المؤاخاة على أمر الدينا.الصحابى يعني به ابن عباس رضي الله عنهما، وقوله: (إن عامة المؤاخاة على أمر الدينا)، هذا في زمنه فكيف بزمننا؟!الثامنة: تفسير قوله: {وتقطعت بهم الأسباب}. فسرها بالمودة، وتفسير الصحابى إذا كانت الإية من صيغ العموم تفسير بالمثال، لأن العبرة في نصوص الكتاب والسنة بعموماتها، فإذا ذكر فرد من أفراد هذا العموم، فإنما يقصد به التمثيل، أي مثل المودة، لكن حتى الإسباب الأخرى التي يتقربون بها إلى الله وليست بصحيحة، فإنها تنقطع بهم ولا ينالون منها خيرًا.التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبًّا شديدًا. تؤخذ من قوله تعالى: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله}، وهم يحبون الأصنام حبًّا شديدًا، وتؤخذ من قوله تعالى: {والذين آمنوا أشد حبًّا لله}، فأشد: اسم تفضيل يدل على الاشتراك بالمعنى مع الزيادة، فقد أشتركوا في شدة الحب، وزاد المؤمنون بكونهم أشد حبًّا لله من هؤلاء لأصنامهم.العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه. الثمانية هي المذكورة في قوله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترافتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها}.والوعيد في قوله: {فتربصوا} فأفاد المؤلف رحمه الله تعالى أن الأمر هنا للوعيد.الحادية عشرة: أن من اتخذ ندًّا تساوى محبته الله فهو الشرك الأكبر. لقوله تعالى: {يحبونهم كحب الله}، ثم بين في سياق الآيات أنهم مشركون شركًا أكبر، بدليل ما لهم من العذاب.
|